أركيولوجيا العلمانية في المسيحية و الاسلام (١)
يعاني العرب المسلمون اليوم معاناة كبيرة بلا شك، على الصعيد المعرفي والهووي. إننا نعيش لحظات تاريخية مفصلية يملأها الضياع والتيه، لقد صرنا غرباء عن عالم اليوم، فلا شيء يميزنا سوى اندهاشنا السطحي، وقلقنا المستمر، نواصل العيش بلا هوية واضحة تعمل كالقلعة الحصينة التي نحتمي خلف جدرانها في اللحظات الحرجة، وننطلق من أبوابها فاتحين في لحظات الرخاء. وفي وسط كل هذا الغبار، نحاول البحث عن حبل لنجاتنا وعن أسباب هذا التراجع الحضاري من أجل ردم الهوة الكبيرة التي باتت تفصلنا عن العالم المتقدم. وفي سياق البحث عن حلول جذرية تكاثرت المعالجات الفكرية، وهي تحاول رصد علل هذا الهوان وتجاوز العقبات، ولكن وللأسف الشديد، فإن كثيرا من تلك المقاربات زادت الطين بِلّة وأغارت من جروحنا الصدئة فقط.
فبين أصوليين إسلاميين وآخرين ليبراليين[2] نجد نمطين سائدين من الحلول يتسمان بجاهزيتهما وتبسيطهما لأساس المشكلة. كلا الفريقين يتفقان حول وجود مشكل عميق يشد هذه الأمة إلى الوراء، ويمنعها من إثبات وجودها بين الأمم اليوم، ويختلف الفريقان بعد اتفاقهم الأولي حول التنظير لهذه المشكلة ورصد أسبابها ووضع الحلول المقترحة بشأنها. فالإسلاميون ببساطة شديدة وبإصرار أكبر، يجادلون أن الأمة بحاجة ماسة إلى العودة إلى دينها القويم وعدم الإخلال به وبأدبياته قيد أنملة، وهم بهذا يضمنون انتشال الأمة من وعثاء تيهها بعد أن نسيت ربها، فأنساها نفسها وقذف بها في لجج الجنون. أما الليبراليون والحداثيون، فهم بمماثلة في البساطة واختلاف في المضمون يغامرون دون شعور بالخوف من خسارة ما، ويذهبون بضرب من المقامرة إلى استيراد حل العلمانية كدواء لأمراضنا الثقافية بعد أن تم تجربته في الغرب، وأثبت نجاعة كبيرة في علاج كثير من مشاكلهم المحتدمة. وليس بخاف مطلقا ما في هذا السلوك المعرفي من التجاهل المقصود للاختلافات الكبيرة بين علوم الإنسان المضطرة دوما إلى بعد التفسير ومثيلتها علوم الطبيعة المكتفية بالفهم إلى حد ما. وبمقارنة تنزع إلى منطق المشابهة المحضة بين أحداث بعينها في الثقافة العربية وأخرى تناظرها لدى الغرب، فإنهم أحلوا مفهوم العلمانية (كما تشكل في الغرب وبعلاته المعرفية التي كونته) المكانة نفسها في ثقاتهم العربية الإسلامية شديدة الاختلاف.
إنها لعنة التشابهات حين تقود منفردة الباحث إلى ساحات الحقيقة، فإذا بنا نجد أنفسنا داخل متاهات هرمسية “تنتقل من مدلول إلى آخر، ومن تشابه إلى آخر ومن رابط إلى آخر دون ضابط أو رقيب”[3] ومن هنا فنحن نحذر من التعامل مع النصوص المعرفية بسطحية تفتقر إلى تحليل إبستيمولوجي قادر على تحويل تلك الجمل اللغوية الصرفة إلى مناطيق معرفية تنتمي إلى تشكيلات خطابية مختلفة محكومة بـ”مجموعة من القواعد الموضوعية والتاريخية المعينة والمحددة دوما في الزمان والمكان”[4]، وهو الأمر الذي من شأنه معالجة الثقافة وفق رؤية تكاملية لا تقترف إثم الفصل المخل بين تشكيلاتها الخطابية المختلفة، فيتم معالجة نصوص تلك الحقول من دينية ونقدية وتاريخية ولغوية وفق خلفية رؤيوية واحدة. فما غمض في أحد تلك الحقول قد يفسره ويبينه نص آخر تشكل وفق وجهة نظر سردية مختلفة قادرة على إيضاح ذلك الغموض.
ونحن على ثقة تامة بأن إصلاحا كبيرا يجب أن يبدأ، لينتشل هذه الأمة من الضحالة التي وصلت إليها، وأن هذا الإصلاح لا يجب أن يقتصر على مجرد أفكار من قبيل العودة لكذا أو التمسك بكذا أو حتى ترك شيء والتخلي عنه! فليست العلمانية، كنموذج جاهز، هي العصا السحرية التي بمجرد توجيهها إلى الجسد العربي المشلول، فإنه سينهض وكأن شيئا لم يكن، وليست كما تصور أركون بأنها: (الوسيلة العظمى أمام المجتمع الإسلامي لتحقيق التقدم والحداثة)[5]؛ بل إن الإصلاح يجب أن يكون عملية إعادة للنظر كليا في المعارف التي تصدر منها الذات المسلمة وفقا لمقتضيات الحياة والواقع اليوم، يجب أن نكتب كل شيء من جديد بالجهد والدموع في عملية بعث كلي للتراث بعيون ليست غافلة عن خطوط وألوان لوحة العصر الجديد الذي نعيشه.
مع مفهوم المفهوم
إننا حين نحاول مقاربة مفهوم العلمانية وما الذي يعنيه ويحيل إليه، فعلينا أولا أن نبين الآلية التي نتعامل بها مع مفهوم المفهوم أساسا؛ فهل يوجد المفهوم بشكل مكتمل ونهائي في لحظة ما ومكان ما كما لو كان أمرا ألقت به الطبيعة بين أيدينا وغاية جهدنا تكمن في الكشف عنه والإمساك بجوهره الثاوي في أبعاده العميقة. أم إنه، وهو ما نتبناه، ليس شيئا سوى تاريخه الممتد وطبقاته المتراكمة بفعل العقول التي تعاورته بالنظر والاختبار. لهذه النظرة التاريخية القدرة على التخفيف من وطأة المصطلح وصرامته المتحكمة بالإنسان تحت مبرر موضوعية الوجود الإنساني، فصرامة نظرية إقليدس الرياضية كانت نموذجا وجد فيه فلاسفة الأنوار الفرنسيون غاية تبريرية للمستبد المستنير؛ وهكذا فإن كل صرامة ستنتج استبدادا بشكل أو بآخر. وقد عاد الأسلوب الصارم في فهم العلمانية علينا بأطروحات حدية تقف على الطرف النقيض تماما لحدية رجال الدين الذين واجهوا تلك الدعاوى بضراوة لا تقل عن مثيلتها لدى خصومهم.
ونجد مثل تلك الصرامة قد تبدت في العمل الكبير للأستاذ عادل ضاهر “الأسس الفلسفية للعلمانية”، والذي يعد أحد أفضل الأعمال الفكرية في هذا المجال، ففي سياق تفريقه بين معنى المفهوم التاريخي، وهو الجانب المتحول منه وبين معناه الثابت والجوهري أطلق على الثاني مسمى السمات الضرورية للمفهوم أو (النواة السيمانتية)، وهي تلك السمات المتخارجة عن إطار الزمان والمكان وغير الخاضعة للظروف التاريخية أو الثقافية، والتي ينبغي توظيفها في تأسيس المفهوم بشكل أساسي ونهائي، وقد كان لهذا التصور العام أثر كبير على مجمل الدراسة التي قام بها الأستاذ عادل ضاهر.[6]
الخلفية المعرفية للمفهوم
في البدء، لا بد من تأثيث الخلفية المعرفية الواسعة التي تبلور مصطلح العلمانية في رحابها وصار جزءا عضويا لا ينفصل عنها لما تمثله الخلفيات المعرفية من سياقات قرائية كبرى تساعد في تحيين قراءة ما لمفهوم بعينه وتحد من الطاقات التأويلية غير المحدودة أن تذهب بنا كل مذهب. ظهر مصطلح العلمانية في الغرب المسيحي كحل لإشكالياته المتكثرة التي تمثلت بصراع شديد بين الطوائف الدينية من جهة وبين بعض تلك الطوائف والسلطة السياسية في جهات مختلفة من أوروبا.
هناك مسلمة في العرف الفلسفي تشير إلى أن أقصر الطرق إلى الحقيقة هو أطولها، ولهذا يتعين علينا المضي أبعد من المسيحية ومن الفترة التي تشكلت فيها إلى تلك الفلسفة الأولى التي استمدت المسيحية منها بعض وجودها من خلال الجدال الكبير الذي استمر بينها وبين تلك الفلسفة القديمة “ولقد تعلم المسيحيون سريعا كيف يصبون لاهوتهم في قوالب فلسفية، والحق أنهم إنما تعلموا هذا الصنيع من الفلاسفة الوثنيين، الذين كانوا في أغلب الأحيان أساتذتهم”[7]، ومن ينظر إلى الفلسفة المسيحية في العصور الوسطى لا يخطئ تأثرها الكبير بالفلسفة اليونانية، حتى إن الدراسات الدينية انقسمت إلى قسمين كبيرين، جزء منها كان يقع تحت تأثير فلسفة أفلاطون المثالية، وخصوصا في بداية الفلسفة المسيحية والجزء الآخر تأثر بدراسات أرسطو الواقعية مقارنة بالرؤية الأفلاطونية؛ فمن رجالات التيار الأول أوغسطين، ومن رجالات التيار الثاني توما الإكويني.
هناك مسلمة في العرف الفلسفي تشير إلى أن أقصر الطرق إلى الحقيقة هو أطولها
لقد جاءت المسيحية بنموذج معرفي ديني يختلف في عمقه مع نموذج الفلسفة اليونانية التي سبقته؛ فالإله كان حجر الأساس والركيزة الأهم في مدار الخطاب الديني، بينما في الفلسفة كان اللوجوس في ذاته هو مدار البحث الذي يجب أن يفهم حتى الإله في إطاره. ولردم هذه الهوة العميقة بين نموذجين مختلفين كل الاختلاف ظهرت لنا أسماء كبيرة في العصور الوسطى أسست للفلسفة الدينية، وحاولت بجهد كبير أن تصقل أي نتوءات ممكنة جراء هذا الدمج الكبير بين الدين والفلسفة.
الفصل بين المقدس المتعالي والأرضي الإنساني هو سمة طبيعية في الثقافة اليونانية التي قدمت العقل المتجوهر دوما وأبدا في رتبة المعرفة الإنسانية؛ فالعقل عند أرسطو كما يقول الفارابي هو على أربعة أنحاء عقل بالقوة وعقل بالفعل وعقل مستفاد وعقل فعال[8]، وحين تحصل المعقولات في العقل بالقوة يصير عقلا بالفعل، ولا يكاد يكون هناك فرق بين المعقولات بالفعل والعقل بالفعل، فهي شيء واحد بعينه[9]. هذا المعنى المتعالي للعقل، والذي يجعله وجودا في ذاته له مهمة رصد ماهيات الأشياء حتى يكاد يكون هو وهذه الماهيات شيئا واحدا- ظل علامة بارزة في فهم العقلية اليونانية، وقد ترك آثاره العميقة في المسيحية التي فصلت بين (الإله/ الإنسان) كعنصرين لهما آثار من التحقق في الوجود، وظل التعامل مع العنصر الثاني في المعادلة كبنية تستمد قيمتها ومعناها من الأول العقلاني ذي الرتبة العليا في التصور المعرفي وقد: “واكب بزوغ اللاهوت العلماني رفض الفصل بين ما هو مقدس وما هو علماني أو بالأدق تكييف المقدس للعلماني بدعوى أن الله محايث وباطن في المجال الاقتصادي كما هو محايث وباطن في المجال الكنسي”[10]، فاللاهوت العلماني حاول أن يجعل من الكلي المتعالي مجرد قانون يستمد تحققه من الواقعي والجزئي.
تمدد هذا الفصل في المسيحية بشكل عميق، ليصل إلى الفصل بين مستويين معرفيين لكل منهما مخرجات محددة تتخللها اختلافات أساسية بسب تغاير مرجعيات كل مستوى منهما، الأمر الذي أوجد صراعا متجددا بدون إمكان قيام حل جذري لمثل تلك العلاقة المتوترة والمفتقدة إلى مبدأ التلاؤم. يتمثل المستوى الأول في المبدأ العقلي ذي النزعة المتعالية عن العالم المتغير، والمستوى الثاني هو المبدأ الواقعي المدرج في حدود الزمان والمكان؛ وبسهولة شديدة نستطيع رصد حضور هذه البنية في أشكال كنسية عديدة، سواء كانت على الصعيد المعرفي والعقائدي أو على الصعيد الوظيفي المناط برجال الكنيسة والرتب المختلفة لهم. فمن جهة، هناك رجال الدين الذين تفرغوا لخدمة الرب، وظلت أعمالهم محصورة داخل جدران الكنسية، ويمثلون الرتبة الأعلى في المنظومة الكنسية ويعرفون بالإكليروس، ويقابل الإكليروس العلمانيون، وهم في الأساس رجال الدين العاملين في المجال الدنيوي، والذين يتقلدون مهاما خاصة تستدعي الاحتكاك المستمر بالعامة والرعية[11]. وفي الفرنسية نجد أن مصطلح العلمانية “laicité” اشتق من أصل يوناني، ويعني شعب أو عامة والمقصود به كل من لا ينتمي إلى الدين[12]، وهذا لا يعني بأن العلمانية في الاستعمال الفرنسي فكرة شعبوية عامة في مقابل النخبوي، ولكن هي استعارة لما هو متغير ومتحول وواقعي في الجانب الشعبي والعام المعيش بعيدا عن معايير الكنيسة الدينية الغارقة في ثبات مكين.
وعلى الصعيد المؤسسي للكنيسة، تظهر هذه البنية المتعالية في شكل الدعوى التي حافظت عليها الكنيسة الكاثوليكية جاهدة: (كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية)[13] بدون الاعتراف بأية إمكانية للتعددية الدينية المذهبية خارج إطار الكاثوليكية، وهذا بسبب الواحدية الأصيلة في بنية الرؤية العقلية المثالية التي تحد من التغير الناتج عن النظر في الأشياء وفق سياقات تحققها في الواقع، ذلك الواقع الذي حمل الإمام الشافعي على إعادة كثير مما كتبه في العراق حين رحل إلى مصر بسبب تغير المكان والظروف التي تحيط به من عادات وطرائق للتفكير وأساليب للحياة، وقد كان البيهقي في كتابه مناقب الشافعي يقسم ما كتبه الشافعي إلى قسمين: كتب كُتبت في القديم، وهي أكثر كتبه وأخرى أعاد تصنيفها في الجديد[14]، وهو دليل كبير على صدور العلماء المسلمين في تشريعاتهم من واقعهم المعيش كأساس للمنهجية التي انتهجوها، وهم في صدد تأسيس العلوم الإسلامية “فهي شريعة منطقية، لا تفرق بين متماثلين، ولا تسوي بين مختلفين، ولهذا كان “القياس” أصلا من أصولها المعتبرة لدى جمهرة الفقهاء المسلمين، ولهذا قال أحد من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء، فقال العقل: ليته أمر به)”.[15]
المصطلح وعلاقته بالثقافة الإسلامية
إن مصطلح العلمانية باشتقاقه اللغوي من اللفظ اللاتيني “saeculum” يعني أن العالم متزمن بالزمان؛ أي أن له تاريخا وأن التغير بهذا المعنى حادث للعالم وليس حادثا فيه فقط[16]، وهو ما كان يمثل مشكلة رئيسة في الفلسفة اليونانية ووريثتها العقيدة المسيحية التي وقعت تحت إسار العقل الكلي ومنطق الضرورة المترفع عن الزمان والمكان معا. إن مفهوم الحق الطبيعي في التصور اليوناني قد تم تبنيه من التقليد المسيحي (ويقوم هذا التصور على أن الحق الطبيعي هو المعايير التي تطابق ماهيات وجواهر الأشياء، وبالتالي فإنه يصدر عن الحالة الطبيعية الأصلية للإنسان التي هي الحالة التي تجسد جوهره الخلقي العقلي باستقلال عن أي تواضعات اجتماعية)[17]، فالماهيات تسبق المجتمع بله أن تتأثر بأي تواضعات فيه، وتسبق الوجود المادي كله فهي تصور معرفي لا يخضع للزمان ولا لتراتبيته الخطية بقدر ما يكون خضوعها للمنطق الصوري وطرائق استدلال المقدمات. إن الزمن في هذه الحالة مجرد مظهر على حد تعبير والتر ستيس؛ فالله وهو الصورة المطلقة والمحضة وليس علة العالم التي تسبقه في الزمان ولكن تسبقه في الرتبة فقط الأمر الذي يجعل من إمكان استنتاج تفسير للعالم بواسطة الإله أمرا ممكنا.[18] وبالنظر إلى هذه النسقية، نجد مبدأ الفصل[19] بين العالم والإله الذي يقبع خارج العالم كلية: يتفاعل أكثر في المنظومة العربية التي جعلت الإله كائنا لا مثيل له وخالقا مطلقا سبق هذا العالم بما شاء من السنين، واختار بإرادته الحرة أن يخلق العالم في لحظة ما وهو ما يجعل تفسير العالم بالإله أمرا مستحيلا.
إن مصطلح العلمانية باشتقاقه اللغوي من اللفظ اللاتيني يعني أن العالم متزمن بالزمان؛ أي أن له تاريخا وأن التغير بهذا المعنى حادث للعالم وليس حادثا فيه فقط
ومن المسلمات التي لا غبار عليها في الخطاب الديني الإسلامي، هو أن كل شيء سوى الله حادث؛ أي زمني، ووحده الإله هو القديم الذي يسبق الزمان والمكان، الأمر الذي يجعل اشتراك الإنسان والرب في بعض الصفا ت من قبيل الاشتراك الاسمي فقط فـ”كون القديم تعالى حيا في حكم المخالفة لكون الواحد منا حيا، وكذلك كونه عالما. ثم ساوى كونه عالما، كون الواحد منا عالما، في أنه مشروط بكونه حيا”[20]؛ فالمساواة في النسبة فقط لا في جوهر الصفة الطبيعية للإنسان، فعلمنا علم مختلف عن علم الله المطلق ولكن شرطه بالحياة واحد في الإنسان والرب. وبالنسبة إلى الماهيات، فإن جمهور المسلمين على أن لا وجود للماهيات في الخارج بشكل مستقل، وإنما كل ما هنالك قوانين فكرية وماهية تصورية في العقل الإنساني عن الأشياء. الأمر الذي يجعل من أسبقية الماهية على الواقعي والزمني متعذرة للغاية، ولهذا نجد الشهرستاني مثلا قد احتفظ بمفهوم الوجود المتعلق بالأعيان، لأنه الأساس الذي شكل مفهوم الوجود الذهني[21] وما اعتبره الدكتور أحمد العلمي، في بحثه الشيق عن نظرية الحال[22] عند الأشاعرة، من أن الشهرستاني فشل بالظفر بحل أصيل لهذا الإشكال الذي أثارته نظرية الأحوال، إذ اقتصرت على الجانب الطبيعي من الوجود لديه ولم تتجاوز ذلك إلى الجانب اللاهوتي[23]، نراه أصلا معرفيا راعاه الشهرستاني باستثناء القديم دوما من منطق المحدثات من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذا الوجود الذهني يبقى مجرد اعتبار، إذ إنه لم يرتبط بماهيات لها وجود عياني وليس متصلا نظريا على الأقل بالجانب اللاهوتي الذي قد يضمن له ثباته المطلق.
وما خلص إليه الدكتور مراد وهبة من تعريف للعلمانية بعد تحليله للمسار التاريخي لها بأنها: (التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق)[24] – ليس بالأمر الغريب عن المنظومة الدينية الإسلامية التي لم تصدر عن المطلق في ذاته، ولم تتعامل مع مفهوم المطلق كجزء من هذا الوجود ومفصول عنه في الوقت ذاته. فالإله في التصور الإسلامي مطلق بشكل كلي، ولكنه من جهة أخرى {ليس كمثله شيء}[25] وهو مبدأ يفصل إبستيميا بين الإله الماورائي والإنسان المتسم بالمزايلة والتغير، ويمنع من تداخل الغيبي بالواقعي والصوري المطلق بالمادي المعيش من خلال هذا الفصل الحاد في الرؤية المعرفية بين كمال الإله والنقص الإنساني، أحدهما يقبع خارج العالم والآخر داخل العالم. ومن هنا، فإن كثيرا من تصورات الفلاسفة المسلمين عن المطلق، والتي تجسدت في نظرية الفيض التي تناوب في صياغتها الفارابي وابن سينا بتأثر كبير بالأفلوطينية، قد واجهت رفضا قاطعا من جميع الفرق الإسلامية معتزلة وأشاعرة وزيدية وسلفيين، ووجدت تلك النظرية لدى الإسماعيلية ومتأخري الاثني عشرية مكانة كبيرة لأسباب تتعلق بتساوقها مع كثير من تصوراتهما المتعلقة بالإمام المعصوم وكونه ضامنا لاستمرار الاتصال بين الإله والإنسان، والذي يقترب كثيرا مع بعض الرؤى الكاثوليكية المتشددة. كما نجد ذلك التواصل في المسيحية، فهم: (يؤمنون باستمرارية الوحي إلى يومنا هذا إذ لم ينقطع الوحي عندهم؛ لأن الكهان واللاهوتيين إذا امتلأوا بالروح القدس كان نطقهم وحيا من الله، وكان كلامهم كلاما من الله جرى على لسانهم)[26].
العلمانية والدين
يظن البعض بأن العلمانية يجب أن تكون مفهوما يناقض الدين كلية، ويحارب جميع الرؤى التي تناسلت منه، أو على الأقل هذا ما تؤول إليه كثير من الدراسات التي عالجت مشكل العلمانية من منطق الدفاع عن الإسلام وقيمه الكونية؛ فالقرضاوي يشير بطريقة غريبة جدا إلى محاولة العلمانيين أن يجعلوا العلمانية مرادفة للعلم، ليحققوا بذلك مكاسب أيديولوجية على صعيد العامة، ثم يفسر بطريقة المنقذ الفرق بين العلمانية والعلم ويوجب العمل بالعلم وينفي العلمانية وإمكان العمل بها[27]، ويرى القرضاوي أن الدفاع عن العلمانية يستلزم المعاداة الصريحة للشريعة الإسلامية[28]. وقد تجاهل أصحاب هذا الطرح كون العلمانية والدين ليسا ثابتين في صورة واحدة أو متجوهرين لا يطالهما مزاج التاريخ المتقلب.
ومما ينفي هذا التصور عن التعارض الكلي بين العلمانية والدين في عمومهما ما نجده عند هارفي كوكس في كتابه المدينة العلمانية، إذ يحدد نشأة الإنسان العلماني بظهور الدين اليهودي، حيث انفصلت الطبيعة عن الله والطبيعة عن الإنسان، ومن ثم انتفت الرؤية السحرية للطبيعة كما لو كانت آلهة[29]. في هذه الرؤية العميقة لمفهوم العلمانية، نجد أن الدين كان هو المساهم في ظهور العلمانية، وأن العلماني في أساسه ليس نقيضا لما هو ديني بقدر ما هو نقيض لما هو متعالي عن الواقع والإنسان. وليس من شروط الديني اللازمة مفهوم التعالي مطلقا، وإنما تختلف درجة التعالي من دين إلى آخر؛ فالبروتستانتي وعالم الاجتماع الكبير ماكس فيبر: (لم يحدد الدين على الإطلاق بأنه لا عقلاني، بل شدد بقوة على عقلانية المنطق في الأعمال التي تناولتها الأديان)[30]. ومن هذا المنطلق، لسنا في صدد الترويج لدين مثالي كلي الوجود نعيد إليه باستمرار جميع الديانات التي خبرناها من خلال مبدأ التحقق الواقعي، فهناك سلم متدرج من الخصائص التي يتميز بها دين عن آخر، وتتواجد في طائفة دون أخرى، وعليه فإن تلك الفروق يجب أن تؤخذ في الحسبان في عملية البحث العلمي.
في الأسطر التالية، نودّ التركيز على الفوارق الرئيسة بين الكاثوليك والبروتستانت كطائفتين دينيتين مسيحيتين، وبيان علاقة كل طرف منهما بالعلمانية وأطروحاتها ومدى التنافر أو التلاؤم معها، لأن ما هو ثابت أن العلمانية لا تدخل مع الأديان في علاقة من حيث هي أديان، وإنما تتحدد العلاقة بين العلمانية وأي دين كان من خلال ما تتضمنه تلك الأديان من خصائص ونزعات استعلائية أو واقعية.
لسيف الشرجبي
عن مومنون بلا حدود / موقع الحداثة
