حول قرار السماح للمدارس السريانية باعتماد المنهج الحكومي السوري في مناطق الإدارة الذاتية ..افتتاحية الحداثة
في خطوة أثارت نقاشًا واسعًا في الأوساط الثقافية والسياسية، سُمِح مؤخرًا للمدارس السريانية في مناطق الإدارة الذاتية بتبنّي المنهج الرسمي للحكومة السورية، في حين ما زال ذلك محجوبًا عن المدارس العربية أو الكردية العاملة ضمن النطاق نفسه. القرار يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة: هل يمثل هذا استثناءً طائفيًا /اثنيا يكرّس التمييز بين المكونات؟ أم أنه تعبير عن مرونة إيجابية تُراعي خصوصية الهوية السريانية وثقافتها التعليمية و ارادة مجتمعها و قيادتها الروحية وطبقتها السياسية المتحدثة باسمها ؟
من زاوية أولى، يمكن النظر إلى القرار بوصفه خطوة إيجابية في اتجاه الاعتراف بالتنوّع داخل البنية السورية، خصوصًا حين يُفهم كمنح للمجتمع السرياني حرية اختيار ما يتناسب مع ارادته وتراثه وهواجسه الوجودية. فالتعدد في المناهج، إذا أُحسن تنظيمه، يمكن أن يعكس تعدد مكونات الهوية السورية بدل أن يهددها، شرط أن يكون هذا الانفتاح محددا عامًا لمقاربات التعليم كلها لا تختلف باختلاف المكون و لا تتعلق باكراهات سياسية و دواعي براغماتية معينة وانما تعكس ارادة المكونات و المجموعات الاثنية و الدينية و المذهبية و تضبط اختيارها لنمط التعليم الذي تريد دون ان يتعارض ذلك مع المصلحة الوطنية العليا لعموم الشعب السوري ..هذا في الاطار العام ، لكن ماذا عن الحالة السورية التي تعاني من سطوة التعليم البعثي الايديولوجي لعقود طويلة و تاثير ذلك على حيز الارادة في ابعادها المركبة ؟! ..المسألة بالفعل تحتاج الى تفكيك ومن ثم احالة الى معايير عديدة اثناء بناء الموقف ازاءها .
على انه لا يمكن تجاهل البعد السياسي البراغماتي الكامن خلف القرار. فالتعامل الانتقائي بهذا الخصوص مع المكونات، من حيث السماح لمنهج حكومي مركزي في منطقة تُبنى على فلسفة اللامركزية، يثير شبهة التمييز واستخدام التعليم كأداة توازن سياسي. ليتحول بموجبه السماح فيه إلى أداة لإرضاء طرفٍ أو طائفةٍ/اثنية بعينها، يتحول لمحدد يهدد و بهشم مبدأ المساواة الذي طالما اكدت الإدارة الذاتية أنها تحميه !!!
الا أن المسألة والحال السوري بهذا التعقيد لا يمكن احالته على منهج. التعليم بحد ذاته، بل الى فلسفة التعليم برمتها ودوره في صياغة الانسان /المواطن. فالتعليم في سوريا، عبر عقود، كان أداة لفرض هوية سياسية بعثية قوموية متطرفة ، واليوم تلوح الفرصة لإعادة التفكير في معنى “المنهج وفلسفته ” ضمن واقعٍ تعدديٍّ جديد والتحدي الاساس ليس في اختيار منهجٍ بعينه، بل في صياغة عقد لنظام تربوي تعليمي يعلي من قيمة الانسان و حقوقه ،يؤكد على حريته ،يرسخ قيم الحداثة و الديمقراطية ، يسمح بالتنوع في اطار اعادة الاعتبار للهوية العيانية التي تتطابق مع اثار الاجتماع السياسي السوري في ابعاده المركبة لا يكون في تعزيز الهويات القانلة او ادلجة الهوية الوطنية السورية ولي عنق واقعها ومنطوقها الموضوعي .
على ان فتح هذا النقاش في الفضاء العام الذي نشارك و نسعى للتاثير فيه نحن اعضاء وحاملي خطاب حزب الحداثة و الديمقراطية لسورية هو بحد ذاته خطوة مهمة نحو اعادة بنينة الوعي السوري العام ازاء قضاياه الاكثر الحاحا لجهة كسر الانتظام التلقائي للمجتمع و القوى السياسية المنهكة، حول القرارات و الاملاءات القادمة من اعلى .
وحري بنا في ذلك السياق القول ان لا وجود لتعليم في اي مكان في العالم غير مؤدلج ، كل عملية تعليمية و كل نظام تعليمي يحدد مقولاته و مناهجه و رؤاه ، هو نظام محكوم برؤية ايديولوجية ، الا ان السؤال الاهم بهذا الخصوص يكون حول الانساق الايديولوجية تلك التي تضيط عمليات التعليم ،هل تعزز التنوع و تعترف بالتعددية تبني الشخصيات الحرة و تدعم العقل النقدي وتؤسس لتسامح بوصفه اعترافا بين مختلف المكونات و التقسيمات المميزة لوجود السوريين ، هل هي تفرض من فوق او تكون حصيلة لنقاش عام و حوار وطني تشارك فيه نخب ويتفاعل معه ممثلون لارادة مجتمعاتهم ومعنيون بحماية روحها ، و هل يتاثر اعتماد منظور تعليمي في مساحة مجتمعية ما بانحيازات ذات طبيعة براغماتية سياسية ام تظل امينة لمبادئ وقيم وذرى عليا تصب في مصلحة انتاج وترسيخ مفاهيم الاعتراف بالواقع التعددي ومتطلبات جعله اساسا للتفاعل الغني واحتفاء بالحياة المشتركة .؟ بالضبط هذه هي المسألة .
اخيرا ان تنوّع المناهج لا يعني بالضرورة ، بالنظر الى تجارب دول متقدمة من حيث هي دول لا مركزية، خلق تعارض في الارادات وتفكك في منطق العلاقة الوطنية بين مكونات المجتمع ، كما أنّ فرض منهج واحد بعينه في سورية كما تقول تجربة الوجود السوري الذي نعيش لن يعني ابدا وحدة السوريين .
وبين هذين الحدّين تقع مسؤولية السوريين في رسم مستقبل تعليمٍ يليق بدولة مواطنة تحريرية لانسانها عاكسة لروحه محققة لارادته .
هيئة تحرير جريدة الحداثة الالكترونية
في السابع من شهر تشرين الثاني من عام ٢٠٢٥
